أضواء على كتاب ألله ونقطة زيت

منذ "هكذا تكلّم زراداشت" الى "الأجنحة المتكسرة" الى "مرحبا ألله" ما هو جديدنا الشعري والموضوعي؟
ـ1ـ
   ترددت كثيراً في تدوين ملاحظاتي العابرة حول كتاب الشاعر شربل بعيني الجديد "ألله ونقطة زيت"، لأنها ملاحظات قاسية. وانتم تعرفون مقدار محبتي لشربل وإعجابي بعطائه الغزير. إلا أنني لا أستطيع أن أسايره في كل شيء، ولا أستطيع أن أغض النظر عن سقطاته الشعرية، وكل هذا مردّه إلى محبتي له، وإلا لكنت التزمت الصمت وتظاهرت باللامبالاة.
   "الله ونقطة زيت" محطّة جديدة وراقية بلغها شربل بعيني من خلال مسيرته الشعرية الطويلة. إنها محطة تحوّل كبير تتسم بغلبة الشعر على النثر. لم أقرأ ما كتب في الجرائد حول هذا الكتاب الجديد، لذا قصدت التركيز على النواحي السلبية في عملية غربلتي للكتاب، وابراز نواقصه وعيوبه، وكنت أود مقارنة الكتاب بالكتب الأخرى التي تناولت مواضيع الشعر التي احتواها كتاب "ألله ونقطة زيت"، إلا أنني في نهاية الأمر عزفت عن هذه الفكرة مكتفياً بالتلميح اليها من بعيد.
   ان شربل بعيني يستحق اهتمامنا به كما يستحق محبتنا.
ـ2ـ
   في مسألة الشعر لا مجال للمراوغة والمجاملة، وإلا سقط الشاعر والناقد والقارىء معاً.
   وإني إذ أهمل النواحي الايجابية والجمالية التي يعبق بها كتاب "ألله ونقطة زيت"، لا ينبغي أن أتجاهل اني أكتب في زمن الضحالة، زمن السقوط الشامل.
   مقدمة الكتاب كانت شبه أطروحة لاهوتية، مع أن كاتبها وظّفها بشكل صريح في مهاجمة الآخرين ممن "لبسوا الثوب الذي يميّزهم ولا يشرّفونه".
   في رأيي أن القصيدة ان لم تثر على ذاتها، وتمزّق أشكالها الروتينية والبدائية، لن يكون لها قدرة على اختراق هذا العصر المتمرّد على نفسه، وعلى ما عداه من العصور الساكنة ظلالها.
   القصيدة حالة لا تشبه إلا نفسها، ولا تعترف إلا بذاتها، ولا تخضع إلا لطقوسها ونواميسها، ولا ترفض إلا على طريقتها الخاصة بها، والمتفجّرة منها إليها والى ما حولها. واما أن تتقيّد القصيدة بأشكال الماضي وأوزانه وألحانه، فإنها ستظل كالحسناء البدوية المقهورة بتقاليد قبيلتها وعاداتها وشرائعها. وكيف لهذه البدوية أن تتعالى على واقعها ما دامت ترفض الخروج على المألوف والسلفية؟.
   القصيدة في "ألله وتقطة زيت" سايرت الماضي بأشكاله وقوالبه الجاهزة، اغتسلت بأسيده، وتنشّفت بغباره، وتبهرجت بألوانه وروائحه، وتراقصت على أنغامه وإيقاعاته. هذا من حيث الشكل واللحن.
   ملاحظة ثانية، لا اخالها اقل خطورة من الأولى، وهي أن الشاعر سقط في "اللحن الفصيح". لقد غالبته اللغة الفصحى: السقطات في هذا المجال كانت كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
"يفوح العطر البنفسجي
من توب أبيض لبستو"
"وحدك مستقبل أيامي
وغيرك تذكار من الأمس"
لغة فصحى نقية لا غبار عليها.
   اللغة الشعرية متأرجحة ما بين الفصحى والعامية، أو بالأحرى مكتوبة بروح الفصحى، ومبهرجة بالعامية، وهذا وهن كي لا أقول عيب.
   ملاحظة ثالثة: ضياع الشاعر في آفاق نظرية، وتناقضات موضوعية، مثل قوله:
"يا رب.. القدامك واقف
تا تراجع خطوات مشيتا
وتعدّ زنوبي المش عارف
لما خطيتا اني خطيتا"
الى قوله:
"وعارف شو رح يصدر مني
قبل صدورو.. لا تظلمني
ومشيني ع دروب التقوى"
   ان من يصادر المستقبل لا بد ان يكون واعياً حاضره وماضيه، أم ان الخطيئة تنزل فينا في غفلة منّا ومن يقظتنا.. في غفلة من زماننا الماضي والحاضر والآتي؟ وماذا عن الخير؟ وهل هو أيضاً يصدر عنا في غفلة منا ومن زماننا؟.
   التفسير الحرفي لما جاء على لسان الشاعر هو أن الانسان يجهل انه يخطىء ساعة يخطىء، ولكنه يدرك خطيئته الساكنة في مستقبل أيامه، ويطالب الله سلفاً بأن يسامحه ويأخذه بحلمه، بينما يطالبه بحرق الآخرين بحموّ غضبه. مسألة فيها نظر!.
   ثم هناك الأديان التي يراها الشاعر ديناً واحداً، وهي في الجوهر ليست كذلك، ولا مجال ههنا للخوض في المسائل اللاهوتية والفلسفية المتعلّقة بهذا الموضوع.
   ملاحظة رابعة تختصر تأثر الشاعر خصوصاً في قصيدته "شموع جديدة" بقصائد موريس عوّاد المندرجة تحت عنوان "مرحبا يا ألله"، لكن موريس عوّاد يمتاز بشفافية علاقته مع الله. انها علاقة صداقة قديمة فيها الكثير من "الخوش بوش". تارة يمازحه ويضاحكه ويداعبه، وتارة يثور عليه، ويرثي مملكته، ويتهمّه بتخلّيه عن أهل الأرض. وأما شربل بعيني فإنه يخاطب الله كما يخاطب الابن الخائف أباه القاسي، او المحكوم حاكمه.
   مرة وصف شربل بعيني نفسه بأنه صديق الله، لكن سرعان ما دبّ الخوف والهلع في قلبه، فعاد ليلقبّه بالأب الماشي فوق الأمس والغد.
"بتبقى البي الما في منّو"
"سبحانك يا بي الكل".
   ولعلّ قصيدة "شموع جديدة" حملت لنا بصمات موريس عوّاد أكثر مما حملت من بصمات شربل بعيني.
   "حدود الويل. حفافي الايام. غرقني باللون تا لوّن كل الاحلام. صيّرني حكايه مخرطشها بإيدك. وع شفافا طرطشها متل الخمره. شلحني بشي دنيي منسيّي تا نفّض غبرتها".
   ان هذه الأجواء الشعرية الشفافة الرقيقة المنفلشة كنظرات الأطفال البريئة، تختلف كثيراً عن أجواء القصائد الأخرى المشحونة بالنقمة والرهبة والرفضية المتشحة ثوب الاصلاح الاجتماعي. حتى أن الألفاظ تبدو كأنها مستعارة من كتاب "آخ" للشاعر موريس عواد. حتى أن طريقة سبكها وتجسيد صورها الشعرية هي طريقة ابن بصاليم في منتصف السبعينيات، وقد غادر ابن بصاليم هذه التجربة الكتابية الى تجربة شعرية جديدة شكلاً ومضموناً من خلال كتابه "حكي غير شكل" وما بعده.
   ملاحظة خامسة: أفكار كثيرة تكرّرت أكثر من مرّة في أكثر من قصيدة. وصور شعرية كثيرة أيضاً كانت ظلالاً لصور سابقة، أو تكراراً لها، ولا حاجة لإعطاء أمثلة على ذلك.
   وأخيراً، انني أتساءل: ماذا أضاف شربل بعيني من جديد شعره إلى قديم جبران خليل جبران في ثورته على رجال الدين وميكيافيلياتهم؟
   لقد وقف شربل بعيني موقف جبران خليل جبران من تجار الهيكل ولصوصه، واصطحبنا الى جنائن زرادشت، وقفشات عوّاد، ولذعات مارون عبّود، وفي رأيي أن أياً من هؤلاء لم يبلغ مبلغ السيّد المسيح في مواجهة الكهنة والكتبة والفريسيين الذين وصفهم بأنهم مراؤون، وحذّر تلاميذه من خميرتهم. وقد شذ فريدريك صاحب زرادشت عن هؤلاء بإعلانه الشهير "لقد مات الله".
   وأما جبران فقد أعلن موت الله في أحد مواقفه المفجعة يوم ماتت شقيقته إذ كتب: "مات الله يوم ماتت سلطانة"، ولم يكن الاعلان الجبراني سوى نوع من "العتب" القاسي المخضّب بالمرارة والتفجّع.
   تلك هي ملاحظاتي "السلبية" التي خرجت بها من كتاب "الله ونقطة زيت"، واما المحتوى الايجابي من أفكار وجماليات فأتركه لغيري علّه يعطي الشاعر حقّه كشاعر جريء، غزير العطاء، متعدّد المواهب.
الناشر: هذا المقال رفضت بعض الصحف المهجرية نشره عام 1990، لأسباب نجهلها، فتمكنّا من الحصول عليه وإثباته في الجزء السابع من سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم" الورقية، مخافة أن يضيع.
**