وكلام اخير لا بد منه يا شربل بعيني

   قبل ان اوجه كلمتي الاخيرة، ارجو من القراء والمعنيين ان لا يعتبروا كلامي تحرشاً بالاديان، او قدسية شخصياتها، كما أؤكد بأني كنت وما زلت من المعجبين بشخصية الامام علي وحكمه وبطولاته، وما كتبته وأكتبه يعني الناحية العلمية والمدارس الفلسفية فقط.
   شربل بعيني مثله مثل كل الذين يودون فرض علي بن ابي طالب فيلسوفاً على الفلسفة والفلاسفة، يلقبونه بالفيلسوف ولا يقدمون لنا نظريته الفلسفية المتكاملة. وكم كتاباً وضع في الفلسفة. ومن ناقض ومن ساير وبأي من الفلاسفة تأثّر، جلّ ما يقدمون نظريات تقوم على الاجتهادات والتفاسير والمقارنات، وذلك انطلاقاً من موقف ايماني ديني نحترمه ونجله الى أبعد الحدود.
   ويذهب البعض الى حد القول بأنه فيلسوف الفلاسفة. أقول لهذا البعض انه يستحيل على أي طالب كان من كان، ان يفهم الفلسفة العربية دونما العودة الى جذورها عند اليونانيين.
   درست الفلسفة العربية والفرنسية مثل أي طالب آخر، عدا تحصيلي الشخصي الذي تجاوز كثيراً المنهاج الرسمي، إلا أن اسم علي بن أبي طالب، كفيلسوف، لم يرد قط لا في المنهاج الرسمي، ولا في الدراسات الفلسفية العليا القديمة منها والحديثة. ولا في معاجم الفلاسفة. وقبل شهرين كنت أطالع أحدث معجم للفلاسفة باللغة العربية من اعداد جورج طرابيشي ومساعدة كل من الدكاترة: ناصيف نجار وجاد حاتم وبشير الداعوق (الطبعة الأولى ايار 1987)، جمع بين دفتيه كل الفلاسفة العرب باستثناء علي بن أبي طالب.
   وأما كتاب "نهج البلاغة" فلعمري، قرأته من الجلدة الى الجلدة، فلم أقع فيه على نظرية فلسفية أو شبه نظرية فلسفية، وانما على حكم ومقالات ومواقف سياسية واخلاقية لعلي بن ابي طالب، اضافة الى تدخل الملائكة في شؤون الناس ومحاربتهم الى جانب الرسول، واحداث تاريخية ودينية وقعت في بداية الدعوة الاسلامية وأيام حكم الخلفاء الراشدين، وعلوم لغوية واستنسابية.. وقرأت أيضاً أن النبي مدينة العلم وأن علياً بابها، يأخذ من الرسول ويعطي من يسأل، على أن الرسول ما كان يعطي فلسفة بل حكمة وشريعة. ذلك أن الفلسفة قابلة للنقض والتحوّل، واما الدين فثابت في الزمان وغير قابل للنقض.
   كما ان الفلاسفة الكبار أمثال الفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد، ومالك بن أنس، وغيرهم، لم يذكروا علياً قط كفيلسوف.
   يبدو أن هناك تياراً جديداً يعوم في العالم العربي بدأ بإحداث انقلابات جذرية على مستوى الفلسفة والفلاسفة، فيقيم فلاسفة ممن ليسوا بفلاسفة ويفرضهم على الثقافة العامة عن طريق اجتهادات ومقارنات خاصة ليس لي فيها "ناقة او جمل". ان امير المؤمنين لا تقوم عظمته على الفلسفة، وانما على حكمه وفضائله، ومعارفه، وعدله، وعلى كونه من "شجرة النبوة".
   ان شربل بعيني اعتمد مصادر منحازة، واهمل المصادر الأخرى، من هنا كان تعصّبه الواضح، ومن هنا كانت سطوة أمير المؤمنين عليه قوية ومؤثرة. فهو، على سبيل المثال، في ردّه موضحاً قوله: "وحدك وحدك انت الغاية"، قرأ علينا دفاع علي عن نفسه أمام قومه لما كانت الحرب الكلامية على أشدها بين طالبي الخلافة. وقد ابتعد شربل كثيراً عن المعنى الحقيقي، واسترسل في تعداد خصائص علي الخلقية وفضائله التي لا أخالفه الرأي فيها. وهكذا فعل حيال "الوهيته" أو حيال ما يعتقده البعض، استناداً الى اجتهادات دينية مثيرة لا حاجة لايرادها ههنا.
   يقول شربل بعيني ان المسيح "تخلّى عن ألوهيته ليتجسّد في انسانيته، وهل يحترم المؤمن المسيح لكونه ابن الله، ويتخلّى عنه لكونه ابن الانسان؟".
   لم يتخلَّ المسيح عن ألوهيته، وهذا ثابت في الأناجيل الاربعة، وفي التعاليم المسيحية كلها. هو، عند المسيحيين، إله وانسان في آن معاً، أو قل "اله متجسد.. متأنسن" ولم يبلغ الايمان المسيحي ذروته بالمسيح إلا عقب قيامة المسيح من بين الأموات، وظهوره للرسل وتلاميذهم، ومنذ ذلك الحين أخذ التبشير بالانجيل منحى آخر، وهو التبشير بـ"قيامة الرب وانتصاره على الموت". يقول بولس الرسول في هذا الصدد: "ان لم يقم المسيح من الموت، فإيمانكم باطل".
   بمختصر مفيد: ان المسيح، في العقيدة المسيحية، كان كامل الطبيعتين: الانسانية والالهية، على أن هذه الأخيرة كانت تشرف اشرافاً تاماً على طبيعته البشرية.
   لم أعترض على فكرة "تقديس علي"، انما اعترضت على ما جاء في شعر بعيني:
يا قديس القديسين..
   أي على تفضيل أمير المؤمنين على عمه النبي، ذلك أم قدرتي على استيعاب العقيدة الاسلامية لم تيسّر لي القول أن علياُ كان أقدس من الرسول.
   في دفاعه عن "نسل الله في علي" يقول بعيني: "وينسى (ميشال) انني ماروني كاثوليكي أؤمن بأن المسيح ابن الله.. وانني ناجيت علياً من هذا المنطلق".
مرات علي في شعر بعيني هو مسلم.
ومرات هو إله.
ومرات هو كلي الغموض.
ومرات هو كاثوليكي.
فما ذنبي أنا ازاء كل ذلك التناقض في شعره.
   وبالنسبة لفكرة "نسل الله" ان المسيح لم يكن نسلاً الا من ناحيته الانسانية التي تعود الى فرع داود بن يسّى، أي الى العذراء امه. وهو مولود غير مخلوق، وهنا تكمن حقيقة سره الكامنة ضمن "الثالوث". فكيف استعار الشاعر كل هذه الأسرار المسيحية ليخلعها دفعة واحدة على أمير المؤمنين علي؟
   الجهاد على لسان الشاعر، أيضاً أخذ مضموناً آخر. لقد أبطل الشاعر مفعول الجهاد، لأن الجهاد ضد الديانات السماوية مخالفة لارادة الله. وكأن الأوثان اضمحلّت وزالت عن الوجود، وكأن عبدة الأصنام في الهند مثلاً، واليابان، والصين، والادغال النائية، انقرضوا عن بكرة أبيهم.
   ألم يعلن المغفور له الملك فيصل "الجهاد المقدس" على الدولة العبرية في السبعينات من هذا القرن؟ ذلك الاعلان بالتأكيد هو في نظر بعيني، مخالفة لارادة الخالق، بل تمرد على الخالق.
   بأية صفة يستصدر شربل بعيني "فتوى" في إلغاء الجهاد الاسلامي و"تكفير" المجاهدين؟.
   لا أريد التوسع كثيراً في هذه المواضيع الحساسة لئلا يظن الذين يبحثون عن الاثارة الطائفية، انني ضد الذين يعظمون امام الائمة ومنارتهم. غير انني لمست تناقضات مثيرة في "مناجاة علي" ما كان لي أن أمرّ بها كما مرّ الآخرون ممن لا يستحبون تسويد "صفحاتهم البيض" مع أحد. وفي اعتقادهم انهم يقدمون خدمة للشعر والادب. ولا اريد بالتالي أن أتناول كيف اختبأ شربل وراء أمير المؤمنين بهدف الاثارة واستدرار العطف لأنه كان قصير الباع في مواجهة واقعه الشعري، وما اقترفت يداه من أخطاء بحق أمير المؤمنين والانبياء والرسل وحتى الله بالذات. وأنا ما كنت أدافع عن هؤلاء ، كنت أدافع عن حقائق تاريخية بسيطة ما كان يجب أن تتفاعل بهذا الشكل العاصف فيما لو كانت النوايا طيبة وايجابية لدى البعض. وقد حاولت قدر المستطاع ألا أغوص كثيراً على المعاني خاصة في قوله مناجياً أمير المؤمنين:
يا مكمّل حالك بحالك.
النهار، العدد 785، 21/1/1993
**