كيف أينعت السنابل؟

"كيف أينعت السنابل؟" قصيدة طويلة تشبه كل الفصول الباردة والحارة، أو قل انها بلاد البرد في فصل الصيف.
   الدم الحار الناشب، مدينة الحرائق، وطن الدموع والآهات، أرض الحب الدائرة، أكوام الناس الخائفة، والجائعة والضائعة، الحروب المتناسخة.. كل هذه المشاهد الدافئة تتلاطم وتتدافع تحت عينين باردتين، تحت عيني الزعيم والامير والحاكم "بعون الله وجبروته".
   القصيدة بشكل عام تتميّز بواقعيتها وكثافة حضورها، والحضور هو التجسيد زماناً ومكاناً، شكلاً ومضموناً.
   أحياناً الاسراف في تصوير الواقع، يؤدي بالشاعر الى السقوط في متاهات النثر والترداد، والى شيء يسمى "تسطيع الصورة".
   فاذا كانت الصورة الشعرية ومضة وخطفاً، فإنها عند الشاعر بعيني في بعض شعره تفاصيل مواكب كأنها صفوف طويلة على شبابيك أفران بيروت.
   غير أن قصيدة "كيف أينعت السنابل؟" تشكل قفزة نوعية مهمة في أدبنا المهجري بأستراليا، وتروي شيئاً من صحرائنا القاحلة، واني أسميها "واحة في صحراء لاهبة".
   والقصيدة حكاية وجدانية عن فتاة اسمها "تمينة" سلبوها بيتها، وتعرّضت لشتّى أنواع القهر والعذاب والتشرد، وحرمت من حبيبها، انها الغريبة في وطنها.
   وهذه الحالة ليست حالة فردية.. انها حالة شعب بكامله، وحال وطن من أقصاه الى أقصاه، والى أطراف الدنيا حيث له شتات.
   تمينة وحبيبها ليسا إلاّ شخصاً واحداً هو شربل بعيني نفسه، وكم يشبه الشاعر في قصيدة "كيف أينعت السنابل؟" جبران خليل جبران في عملية استنطاق أبطاله، فقد يتعدد الاشخاص، من حيث الكم والعدد، ولكنهم ينطقون جميعاً بصوت واحد هو صوت الشاعر أو الكاتب، حتّى قيل أن جبران هو البطل الحقيقي لقصصه، وهذا ما يسميه أهل المسرح "الملقّن" الذي لا يظهر مباشرة فوق خشبة المسرح، بل يملي على الممثلين من وراء الستائر النص المسرحي.
   القصيدة تجربة شعرية ناجحة، ومعاناة صاخبة، أسهمت الى حد بعيد في تثوير الشاعر، وفي تفجير تمزقاته الداخلية، حتى بقّ البحصة في نهاية القصيدة إذ قال:
قَسَماً..
بِأَحْرُفِ القُرآنِ وَالإنْجيلْ
لَنْ أَموتَ قَبْلَ أَنْ أَفْضَحَ مَلْيونَ عَميلْ
وَزَّعوا شَعْبِي غَنائِمْ..
قَسَماً بالأَرْزِ
وَالثَّلْجِ
وَأَوْراقِ النَّخيلْ
لَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ جُرْحي وَأُقَاوِمْ
حَتَّى، عَنْ أَرْضِ بِلادي،
يَرْحَلَ الْغازي الدَّخيلْ
وَتَعودَ، يا حبيبـي، بَعْدَ غَيْبَتِها الْحَمائِمْ
كُلُّ السَّاحاتِ تَأَهَّبَتْ
لِهُبوطِ أسْرابِ الْحَمائِمْ.
   ويا شربل، علمونا ونحن صغار بأن العمر في يد الله، ولا أحد يدري متى يأتي السارق.. في منتصف الليل، أو عند صياح الديك. وأملنا أن يتأخّر مجيئه لنكتشف المزيد من الكنوز المخبأة:
خَبِّئينـي يا بِلادي تَحْتَ شالِكْ
وَاسْكُبينـي ضَوْءَ شَمْسْ
كَيْ أَشِيلَ اللَّيْلَ مِنْ قَلْبِ رِجَالِكْ
وَأُقِيمَ، كُلَّ يَوْمٍ، حَفْلَةً
فَوْقَ الْحَوَاجِزِ وَالْمَعَابِرْ
وَأَمَامَ كُلِّ حَبْسْ
وَعَلَى وَجْهِ الطُّفولَه
أَرْسُمُ الْحُلْمَ الْمُسافِرْ
وَرْدَةَ حُبٍّ خَجُولَه
وَأَناشِيدَ وَهَيْصاتٍ وعُرْسْ.
صدى لبنان، العدد 455، 30 تموز 1985
صوت المغترب، العدد 846، 15/8/1985
**