مقدمة بقلم شربل بعيني

   منذ وصوله الى أستراليا، أي منذ أكثر من 35 سنة، عرف الأديب والشاعر والاعلامي والناقد ميشال حديّد كيف يدير بوصلة الكلمة بحنكة قبطان حكيم، تعوّد على لجج بحار الصرف والنحو، ومحيطات النقد الحديث والقديم.
   لذلك نراه يتأنى في كتاباته، فإذا مدحك، تأكّد من أنه لن يوصلك الى الغرور، وإذا انتقدك، فلن يقطع "خيط معاوية". 
   وهذا ما حصل معي تماماً، فلقد كنت أشكر ابن بلدة "رشعين" اللبنانية الشمالية البار، على انتقاداته لي، مهما كانت قاسية، لأنني كنت أعلم مسبقاً مدى اهتمامه بأدبي خاصة، وبالأدب المهجري عامة:
   ترددت كثيراً في تدوين ملاحظاتي العابرة حول كتاب الشاعر شربل بعيني الجديد "ألله ونقطة زيت"، لأنها ملاحظات قاسية. وانتم تعرفون مقدار محبتي لشربل وإعجابي بعطائه الغزير. إلا أنني لا أستطيع أن أسايره في كل شيء، ولا أستطيع أن أغض النظر عن سقطاته الشعرية، وكل هذا مردّه إلى محبتي له، وإلا لكنت التزمت الصمت وتظاهرت باللامبالاة.
   "الله ونقطة زيت" محطّة جديدة وراقية بلغها شربل بعيني من خلال مسيرته الشعرية الطويلة. إنها محطة تحوّل كبير تتسم بغلبة الشعر على النثر. 
   هكذا يبدأ ميشال حديّد انتقاداته "القاسية"، فيعطيك الكثير، ليأخذ منك "الأكثر"، دون أن يسقط في مستنقعات النقد الشخصي، كما يفعل بعض النقاد، بل يظل ضمن النص، يفلفشه، يغربله، ويبذره نقداً مستحباً، مهما كان فجاً، بأسلوب أدبي راقٍ، يدفعك، رغماً عنك، الى الاعجاب به، وتقديم الشكر له على اهتمامه بما تكتب.
   وميشال حديّد من أكثر الذين اهتموا بأدبي، وسلطوا الأضواء عليه، وكان يجاهر علناً بأن لولا شربل بعيني لما كان هناك حركة كتاب مهجري:
   أكثر الناس في جاليتنا جرأة على طبع مؤلفاتهم ونشرها: شربل بعيني، ويليه جميل غازي ونعيم خوري. ونكاد نقول انه لولا هؤلاء الثلاثة لكانت حركة الكتاب المهجري في خبر كان.
   وعندما بدأ كلارك بعيني بنشر سلسلة كتب "شربل بعيني بأقلامهم"، كان ميشال حديّد أكثر المشجعين لها، واعتبرها "مرجعاً قيماً" لكل من يريد تقييم مرحلة طويلة من أدبنا المهجري:
   ولعل القيمة الاساسية التي يحملها الكتاب هي تلك الجدلية التي تولدت بفعل تصادم "الاقلام المختلفة" واحتكاكها، تارة تلتقي، وتارة اخرى تتنافر وتتباعد وتتناقض وهي مكبة على درس مادة الشعر.
   القيمة الاساسية الثانية هي انها جمعت ما تناثر من المقالات في كتاب واحد حفظها من الاندثار والضياع، وهي، بلا شك، ستكون يوماً من الايام مرجعاً قيماً لكل من يريد تقييم شعر شربل بعيني عبر محطاته الاكثر توهجاً، ولكل من يريد ايضاً تقييم مرحلة طويلة من الادب اللبناني المهجري في استراليا.
   فما كان من كلارك إلا أن رد له التحية بأجمل منها، فكتب عنه في الجزء الثالث ـ طبعة أولى 1988، من سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم" ما يلي:
   ميشال حديّد.. قلم مشرق، أبي وناصع كجبين الأبطال، يعرف كيف يحلل، يؤنّب، يوجّه، ويبارك ليصل والأديب الى بر الأمان.
   قد يكون أحد أكثر الذين كتبوا عن شربل بعيني، وقد يكون أحد المقربين اليه ايضاً. وقد قال لي شاعرنا ان قصيدته "المربدية" مرّت تحت مجهر ميشال قبل إلقائها في بغداد.
   مع اعتكافه الأدبي المرحلي تفتقر الساحة الى قلمه الذي يعرف كيف يرسم خطوطها.
   أما في الجزء الأول من "سلسلته" فقد قال عنه كلارك:
   ميشال حديد.. واحد من كبار نقّاد المهجر، لأنه يتعامل بصدق مع الكلمة، فتراه يحنو عليها أحياناً، ويقسو عليها أحياناً أخرى، مما جعل القراء يؤمنون بكل كلمة يسكبها يراعه على صفحات الأدب المهجري.
   يكتب الآن في جريدة "صدى لبنان" زاويته الشهيرة "على صنوبر بيروت.
   و"الآن"، تعني عام 1986، لأن ميشال انتقل من "صدى لبنان" الى "ديالا" ومن "ديالا" الى "النهار" و"الشرق"، كيف لا، والعديد من الصحف والمجلات الاغترابية تقفل أبوابها لحظة انطلاقها، بسبب قلّة الدعم الاعلاني، وعدم اهتمام المغتربين بالقراءة، فلقمة العيش تأتي أولاً، وما على الاعلامي سوى التفتيش عن عمل جديد.
   وبما انني أسجل لحظات تاريخية من أدبنا المهجري، لا يسعني إلا ان اعترف أمامكم بخطأ جسيم ارتكبته بحق ميشال حديّد، فلقد هاجمته شخصياً يوم انتقد ديواني "مناجاة علي"، وشبهت معرفته الدينية بفناجين القهوة الصغيرة، التي تمتلىء بسرعة فتحسب نفسها أعظم وأكبر وأفهم من غيرها، وبدلاً من أن يثور علي، أرسل لي رسالة شخصية جاء فيها:
   عزيزي شربل
   تحية من القلب
   مهما قسا الناقد، يظل المنقود أوفر حظاً وأكثر استفادة.
   أن أتهمك بالتعصّب، فقد حددت مادة تعصّبك ونبعته وسببه دون تعميم التهمة، بعكس فعلتك نحوي. وأما الاتهامات الأخرى فكانت حصيلة نقاش وتناقض فكري بيني وبينك، ولم تكن تهجماً شخصياً.
    وبينما كنت أقرأ ما كتب، كان عرق الندم يتصبب من جبيني، وأنا أردد في سري: أغفر لي يا صديقي.
   هذا هو ميشال حديّد، ينتقد الكتاب ويبتعد عن الكاتب، لذلك ستجدون لذة كبرى في قراءة مقالاته الايجابية والسلبية، لأنه كالميزان لا يخطىء.
   ورغم مرور 28 سنة على نشرها، ما زلت أردد هذه الأبيات الزجلية التي أهديتها لميشال يومذاك:
ميشال حديّد.. لو كان
في متلو بهالدنيي كتير
كنا منلاقي الانسان
عم يخلق والعقل كبير
   فألف شكر يا أخي ميشال على محبتك واهتمامك بأدبي المهجري، واسمح لي أن أعيد إليك ما أهديتني إياه، خلال رحلتي مع القلم، من مقالات خالدة، ضمن ضفتيْ كتاب عنونته أنت: "شربل بعيني ثائر شجاع". 
وفقك الله.
**