كلارك بعيني أصبح ذاكرتنا الخضراء

والجزء الثالث فضيحة كبرى في جالية عدد كتابها أكثر من عدد قرائها.

   "شربل بعيني بأقلامهم ـ الجزء الثالث" يشبه امتداد البقاع أيام الربيع وانت تطل عليه من برجه العالي بضهر القضيب.
   لقد جمع هذا الكتاب ما نسينا من أشيائنا الثمينة، واعادنا الى ماضٍ من الذكريات الجميلة، وحفّزنا على مواصلة المسيرة الشاقة في جالية تعطي الدولار لا الكلمة أفضلية المرور، فتعقدت الحياة أكثر، واختلطت الأوراق، واكتظت الواجهة الأدبية والاعلامية بحملة الألقاب المستعارة والمزوّرة، فهذا يسوق الكلمات كأنها قطيع من الماعز، وذاك يشقع الألفاظ كأنها حجارة رصيف مهجور، وذلك يأكل خبز الغير بنهم سارق الهيكل المقدّس.
   من يكتب؟ ومن يقرأ؟ ومن يدقق؟
   فوضى. ضجيج. عربدة على المكشوف. وكل ذلك يسمونه أدباً وتأدباً، ابداعاً وابتداعاً!.
   آدابنا المهجرية.. ولعمري ما أدراك ما آدابنا المهجرية!
شطحات مراهقين.
أحلام مشعوذين.
   خرطشات سكارى.. لا فارق بين اليابس والاخضر، بين أحراج العلّيق ومساكب الورد.
   أكتب يا أخي واملأ هذا الفراغ الشاسع. املأه زعيقاً وصراخاً وشخيراً. المحتوى ليس بمهم. المهم هو ألا يكون هناك فراغ بعد اليوم.
   نحن في زمن يقيس الفكر بالأشبار، والكتاب بالغرامات، والكلمات بالأرقام. يابس. أخضر. أسود. أحمر. هذه لعبة ألوان، لا تقف عند هذه اللعبة. اكتب بالمعول، بالرفش، بأي شيء وصلت اليه يدك، ولا تلتفت الى الوراء، ولا تقرأ ما تكتب، لئلا تنقلب امعاؤك من رائحة ما كتبت.
   لولا قلّة قليلة في هذه الجالية لكنت خنقت كل كلمة تشق مسافتها الى الضوء وكل صوت بنفسجي. فالطقس شقفة من صحراء الربع الخالي، والهواء موبوء، والمكان حقيبة سفر او فرصة للطارئين الباحثين عن "وقفة عز" وراء الميكرفون.
   الجزء الثالث من "شربل بعيني بأقلامهم" أسكت كثيرين من هواة الزعيق والهوبرة، وفضح الكثير من عيوبنا، خصوصاً في مجال النقد الأدبي.
   هو كتاب نقدي، هو غربال، ولكن ليس كل ما فيه يخدم الغاية الاساسية. واني شخصياً لم أرَ أي مبرر لإعادة جمع مقدّمات قدّمت بها كتب الشاعر شربل بعيني سابقاً، فتلك المقدّمات وجدت مكانها الصحيح حيث هي ولازمته الى الابد.
   أما بالنسبة للأعمال النقدية التي احتواها الكتاب، فإنها في الغالب جاءت بمثابة بحوث عامة بحيث انها تفتقر الى عنصر التركيز، فالصورة الشعرية مثلاً لم تعالج كموضوع مستقل فيشبع درساً وتمحيصاً وتقليبا، واللغة الشعرية أيضاً. وأيضاً خلا الكتاب مما يسمى "الأدب أو النقد المقارن"، وهذه الثغرات هي برأيي فضيحة كبرى بالنسبة لكثيرين ممن نصّبوا أنفسهم نقّاد أدب وشعر. ما أسهل الكلام في المطلق. ما اسهل الحديث عن أمور عامة.
   أما الذين يمدحون القصيدة أو يرثونها من موقعهم السياسي الجامد، فإنهم رمز التزوير والتدجيل في هذا العصر.
   النقد الأدبي الصحيح يجب ألا ينطلق من نظريات جاهزة، سياسية كانت أو ايديولوجية. القصيدة هي المنطلق وهي المسافة والمدار. هي الموضوع المطروح للنقد لا بمقاييس خارجية جاهزة، وانما بما تختزن هي من فكر وطاقة وشعور وعنصر مفاجأة وبُعد هدف وايحاء وجمال. فكل هذه الطاقات تسكن جسد القصيدة ومخيّلتها. والناقد الناقد هو الذي يلتقط أسرارها، فيعيش القصيدة لا نظريته الجاهزة لئلا يمسح ما لا يتماشى ونظريته الجاهزة، ويضخّم وينفخ ما يخدم نظريته.
   وهناك مشكلة الحرف، كان من الأفضل أن تعاد طباعة كل المقالات على آلة كاتبة واحدة، ليكون شكل الحرف واحداً بغض النظر عن حجمه. فالشكل هو ايضاً قيمة جمالية هامة.
   للمرة الثالثة أردد بفرح: شكراً للاستاذ كلارك بعيني. سيأتي يوم يكون فيه هو المرجع الأساسي لأهم ما يكتب في جاليتنا من أدب وشعر. انه خزانتنا الأدبية، لا بل انه ذاكرتنا الخضراء.
   انني أقدّر تماماً أتعابه، وتضحياته، وأقدّر فيه ذلك الانفاق النبيل الذي غايته خدمة المعرفة التي تخلّد صاحبها بمقدار ما يثمر ويعطي. المسؤولية اذن تقع على عاتق الزارع لا جامع الغلال.
  مقال لم تنشره الصحف المهجرية لسبب نجهله، فنشرناه نحن كي لا يضيع. 1988
**