رباعيات شربل بعيني

بالصدفة وقعت يدي على كتاب اسمه "رباعيات" للشاعر شربل بعيني، وهذا الكتاب كناية عن قصيدة طويلة باللغة اللبنانية، كنت قرأتها في العام 1983، وأعجبت بها لأسباب عديدة.
السبب الأول: طول النفس الشعري عند الشاعر.
السبب الثاني: عمق التجربة الشعرية وشموليتها.
السبب الثالث: العفوية الصاخبة المشدودة بشيء من عنصر القصة التشويقي.
   وهذه الملاحظات وجدتها مدونة على هامش الكتاب بخط يدي، ورأيت نفسي مضطراً لاعادة قراءة القصيدة من باب تقييم الملاحظات تقييماً ذاتياً. فلم أضف اليها شيئاً ولم أحذف منها شيئاً.
   لغة الشاعر بعيني لغة جميلة، مهفهفة، جذابة وبسيطة كحياتنا الريفية البعيدة عن تعقيدات التكنولوجيا، وصخب المدن، وضجيج التجار والسماسرة. لغة تتعامل مع الألوان والمواسم والحجر والشجر تعامل الفلاح مع أرضه ومحراثه وزرعه وحصاده. القلب هو المسافة والعقل قنديل يضيء المسافة وما يجري من أحداث وقصص ضمن مسافة الضوء.
   وباختصار.. المسافة حكاية عمر، وما العمر سوى محطات متصل بعضها ببعض اتصالاً وجدانياً عميقاً، وان كانت متصادمة المواقف والحالات والنتائج.
الْعُمرْ ضِحْكِه.. وْإِذَا مَا ضْحِكْتْ
بِتْعِيشْ حَامِلْ هَمّ عَ ضَهْرَكْ
بْتِمْرُقْ حَيَاتَكْ تَافْهَه.. وْعَ السَّكْتْ
بِتْصِيرْ تِضْجَرْ إِنْتْ مِنْ عُمْرَكْ
   ومن عمر الضحكة ينقلنا الشاعر بسحر شعره وعذوبته ورقته الى عمر السراب والضياع والغربة:
عم نركض نجمّع بغربتنا سراب
ونفني العمر ونضيّعو بالوهم
وولادنا التاركينهن خلف البواب
عم يكبروا وبقلوبهن شلال سم
.....
رَحْ يِقِتْلُونِي.. صَاحْ هَـ الْكِذَّابْ
الْـ عَمْ يِكْذبْ عْلَيْنَا بْأَقْوَالُو
وْهُوِّي بْعَيْن النَّاسْ مِتل الْبَابْ
بْيِغْلُقْ.. بْيِفْتَحْ بِالْهَوا.. لْحَالُو!!
   ولا ينتهي هنا، بل يعطينا مبررات لآلامنا وعذاباتنا، وعلى حد قوله، ينبغي علينا أن نتألم ، كأن ذلك واجب وصولاً الى معرفة القيمة ـ الحقيقية:
لازِمْ نْجُوع وْنِعْطَش وْنِبْكِي
وْنِبْرُدْ.. تَا نَعْرِفْ قِيمْتَكْ يَا رَبّْ
   والانسان ليس يعيش في المطلق، ولأجل المطلق، الانسان جزء من المجتمع الحضاري الثقافي، لذا فإن عمره القصير على وجه الارض متداخل ومتشابك مع الزمن الاجتماعي. التجربة واحدة ولكنّا غرقنا في التجربة: تجربة الحرب وتجربة الثورة على الحرب والمستفيدين من الحرب:
لا تْصَدّقُوا الأَخْبَارْ كِلاَّ كِذْبْ
نِحْنَا الْـ دَفَعْنَا دَمّنَا بْهَالْحَرْبْ
مَاتْ مِنَّا أْلُوفْ خَلْف أْلُوفْ
وْعَ ضَهرْنَا اصْطَلْحُوا دْيَاب الشَّعْبْ
....
يَا أَرْزِة بْلادِي هَانُوكِي كْتِيرْ
نَاسْ نِصَّابِينْ مَا عِنْدُنْ ضَمِيرْ
رَفْعُوا لِوَاكِي كِذْبْ قِدَّام الْبَشَرْ
وْدَبْحُوا طْفَالِكْ غَدرْ بِقَلْب السّريرْ
....
كِرْمَالْ عَيْنِكْ بَسّْ.. يَا بْلادِي
زْرَعِتْ بِالْغُرْبِه شِعرْ وِزْهُورْ
وْضِلَّيْتْ طُولْ الْوَقْتْ عَمْ نَادِي:
يْدُومْ عِزِّكْ.. وِالْقَلِبْ مَقْهُورْ!!
   تصوير رائع لحالة الانسان في غربته. النيران تتآكله من كل الجوانب، محاصر ومحتل بالقهر والحنين والغضب، يعز على اللبناني المهاجر أن يرى وطنه تتناتشه الذئاب الكاسرة أو "دياب الشعب"، وتتوازعه حصصاً بالتراضي أو بالقوة، ويتحطّم قلبه أمام مشهد الوطن الذبيح، ومشهد الكذب والتزوير والغش. ومن أعماق قلبه المحطّم المقهور يصرخ:
"يدوم عزك" يا أرزة بلادي.
   رغم كل شيء، ورغم ان اللبناني يعرف تماماً أن الوطن تحوّل الى مزرعة للزعيم وحاشيته، لكنه لا يستسلم، ولا يترك اليأس يلج الى داخل نفسه، ولا يجبن أمام الموقف الصعب، بل نراه ينتفض ثائراً ومهدداً ومتحدياً. انتفاضته مقاومة لأجل البقاء والاستمرار. انتفاضته وجود وتأكيد للوجود. غضبة بطل له تاريخه الطويل في النضال والمجد.
   "رباعيات" الشاعر بعيني باللبنانية قصة انسان بعيد عن أرضه بالجسد، قريب منها حتى العظم بالروح. وفي هذه القصة المؤثرة المليئة بالدموع والحسرات والوجع والحنين، تتبلور مشاعرنا الحقيقية، واحساساتنا الدفينة، واحلامنا الجميلة، وغضبنا المتأجج بشعر لبناني صافٍ وممتع للعين كما هو ممتع للأذن والعقل والقلب. نحن لسنا جيل الحرب المجاني، نحن جيل الثورة على "دياب الحرب ودياب الشعب"، وعلى ذابحي أطفال الوطن في أسرّة البراءة.. أو كما يقول الشاعر، نحن جيل الدم البريء:
كلّ نقْطِةْ دَمّ نِزْلِتْ عَ التّرَابْ
فَرَّخْ مَكَانَا حُلْم أَوْسَعْ مِنْ دِنِي
وْخَلِّتْ وَطَنَّا يْزِيحْ عَنْ صَدْرُو الْعَذَابْ
وْمِتل السِّحر يِرْجَعْ لَحَالُو يِنْبِنِي
   .. ولا حاجة بعد هذا الكلام لأي كلام آخر، فهو يختصر شعارنا المقدّس: لبنان يبنيه اللبنانيون، وعبثاً البحث عن بنائين من غير الشعب اللبناني.
صدى لبنان، العدد 442، 2 نيسان 1985
**